أبْـرِي فـَگـَرْنـَا دَبْـرِي ..
جلال إبراهيم
" ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" (الأعراف 55) صدق الله العظيم
عندما تحل بالأمم النكبات والمصائب والكوارث الطبيعية من زلازل وفيضانات وقحط وجراد أوعندما يتكبر ويستبد أولي الأمر فيها تلتفت إلى مخزونها الروحي والديني وتفر إلى خالقها تتضرع إليه أن يكشف همها ويفرج كربها ، تدعي وتتوسل وتُخرج الصدقات ويصوم رجالها ونسائها تقرباً إلى الخالق طالبين عفوه وطامعين في رحمته. وفي كرن مثل غيرها من المجتمعات الإرترية المسلمة الأخرى كانوا الناس لا ينقطعون أبداً من التضرع إلى الله ومن إخراج الصدقات عندما حلت بنا كارثة الكمندوس الأولى وما صاحبها من القتل والتشرد والإختطافات والإعتقالات العشوائية.
إعداد "الچيفوت" أوالبليلة في يوم عُرف بيوم " ياعفوك " وخروج مجموعات من النساء إلى الخلاء وهن يردّدن الأدعية كانت واحدة من العادات السائدة في إرتريا ، والچيفوت هي عبارة عن الذرة والقمح المسلوق مع أنواع أخرى من البقول يتم إعدادها في قدركبير، وچيفوت الصدقة كان يتم إعدادها في فناء الدار وليس داخل المطبخ أو البيت وكان يهدي منها للجيران والأقارب ويتصدق بها للمحتاجين.
في يوم الـ "ياعفوك" في الضحى من صباح يوم شمسي كن الأمهات يحملن أقصان من الكعلي أو سعف أشجار الدوم والذي هو علامة السلام مثل غصن الزيتون ويتوجهن إلى قمة جبل مجاور حيث يمضين الوقت في الدعاء والمناجاة والصلاة .. يرددن كلمات الدعاء والتوسل:
ياعفوك .. يا عفوك
أبْرِيْ .. فَگَرْنَا دَبْرِي
ياربي عفو دينا
سَلـْمَنَا وَنَاجِينَا
وفي كرن كن يصعدن إلى قمة جبل إي تعبرالذي يوجد في شرق المدينة والذي تقبع المدينة تحته .. دبر إي تعبرله مكانة خاصة عند الكرنين وهو إحد العلامات المميزة للمدينة ويأخذ حيز كبير من ذكريات الطفولة وكانت له مكانة خاصة في خيال أطفال المدينة حيث كنا ننسج حوله أساطير كثيرة ، فقد كان من بيننا من يعتقد من أن هناك بحيرة كبيرة في داخله ولو وجدت هذه البحيرة ثقبا على جانبه فسوف يخرج منها نهر عظيم ، ولم نتخيل أبداً أن هناك جبل أخر بشموخ إي تعبر بالرغم من وجود لالمبا وزبان على مقربة منه. سألت صديق زار الوطن بعد غيبة طويلة عن إنطباعاته عن المدينة فقال لي شعر وكأنه يرى جبل إي تعبرمن وراء التلسكوب أو المنظار المقراب ! " إي تعبر إبْ مِنِيكـَلـُو لـَقـَرْبـَا مَسِلْ ! "
فى يوم الـ "ياعفوك" كن الأمهات يلبسن التوب الأبيض وكان ذلك قبل أن تغزي أسواقنها التوبات الملونة والمزركشة بأسمائها الغريبة من السودان ، فعندنا التوب الأبيض كان سيد التوبات كلها .. و يصعدن إلى جبل إي تعبر حيث كان يوجد في قمته مصلى يطلق عليه الـ "مقام " ويمضين يومهن في الدعاء والصلاة والذكر وإعداد الچيفوت وشرب البون وإحراق البخور.. وهذا المصلى هو ما كان الدرويش فرجت مدا الله في عمره يمضي فيه ليالي الشتاء الباردة وهو يدعي ويناجي ربه ويُذَّكر سكان المدينة بالتوبة والتقرب إلى الله. وكان هناك "مقام" أخر في دعاري عرف بمقام شيخ عبدالقادر يقصدنه الأمهات في يوم الـ "ياعفوك" ومقام أخر في حشلا عرف بمقام سيدي هاشم وربما كان مقام رابع في دبر عد حباب.
عادة الـ " ياعفوك " كانت سائدة قبل أن يمنع الكمندوس الصعود إلى قمة إي تعبر حيث إحتلوا الجبل وأقاموا في المصلى واحدة من نقاط الحراسة يتناوبوا فيها مجموعة من الجنود على مدي الأربعة وعشرون ساعة ، وكانت هناك نقاط تفتيش أخرى موزعة حول المدينة في شكل دائري إبتداء من جبل سنكيل إلى ممر طنقلحس إلى جبل زبان إلى قمة إي تعبر إلى بلوكو أسمرا ثم وادي قظيتاي ثم مدخل دعاري إلى جبل لالمبا مما كان يشكل طوق أو حزام دائري وضع المدينة تحت الحصار الدائم .. بالطبع هذا الحصار حرم أمهاتنا من إقامة تجمع صدقة الچيفوت في المصلى الموجود في قمة إي تعبر ومنع صغار المدينة كذلك من الصعود إلى الجبل في مغامراتنا الصبيانية ، ولذا بدل الصعود إلى قمة الجبل إختصرن المسيرة في شوارع الحارات وكن يجوبن شوارع الحارة ونحن الصغار نجري من ورائهن ونردد معهن
أبري .. فگرنا دبري
ياربي عفو دينا
سلمنا ونجينا
وتستمر هذه المسيرة لبعض الوقت ثم يجتمعن فى إحد البيوت لبقية اليوم يأكلن من الچيفوت ويشربن البون ويرددن الأدعية والأذكار وقليل من الونسة .. ولكن مع مرور الزمن ضاعت عادة الـ "ياعفوك" مثل الكثير من العادات الأخرى وطواها النسيان ولا أظن أن اليوم لها أي وجود في المجتمع الكرني وربما في كل إرتريا.
ونحن مثل الأمس ما أحوجنا اليوم أن نقول مثل أمهاتنا
ياعفوك .. يا عفوك
أبري .. فگرنا دبري
ياربي عفو دينا
سلمنا وناجينا