لهجة
التجري والأبجدية العربية
أبوبكر جيلاني
لهجة التجري أوالتجرايـِتْ هي لهجة سامية مشتقة من لغة الجئز السبئية المندثرة ،
يتحدث بها سكان المنخفضات الغربية والشرقية والشمالية في ارتريا ، وسكان أجزاء من
شرق السودان. في ارتريا تتحدث بها نسبة مقدرة من الشعب الارتري ، ويفهمها السواد
الأعظم من الشعب الارتري من غير الناطقين بها سيما الاثنيات التي تجاور ناطقيها.
وفي شرق السودان يتحدث بها فرعين من فروع قبائل البجة من سكان ولايات البحر الأحمر
وكسلا والقضارف. والسواد الأعظم من الناطقين بها في ارتريا والسودان يصنفون من
قبائل البجة .
خلال الألف عام الماضية حدث تحولات عميقة في بناء اللهجة مدار البحث ، وفي مفرداتها
جراء تمازجها التدريجي مع اللغة العربية المعاصرة ، سيما بعد اعتناق قبائل البجة
الديانة الإسلامية ، وتواصلهم مع الشعوب العربية تجاريا وثقافيا واستخدامهم
الأبجدية العربية للتعليم والعمل دون التخلي عن لهجتهم ذات الأصول السبئية في
الحديث المنزلي وفي نطاق العشيرة والأقربين ، مما جعل من لهجة التجري لهجة عربية
قديمة متجددة ، ومما أدى إلى ابتعادها بنيوياً عن اللغات السامية الأخرى في القرن
الأفريقي ( التجرنية والأمهرية ) إلى أن جاءت طلائع الاستعمار الغربي ومعهم
المبشرين والمستشرقين وشرعوا في كتابة التجري بحروف الجئز لأغراص خاصة ببرامجهم
ومخططاتهم التي جاؤا من أجلها .
ومن يَطَلِعْْ على اعمال المستشرق الألماني ( إينو ليتمان ) عن لهجة التجري "أغاني
التجري " الذي طبع تحت عنوان " منشورات بعثة جامعة برينستون ، المكون من اربعة
مجلدات ، والذي وثق فيه ما يقارب 717 قصيدة من شعر لهجة التجري في 1913م وطبع فيما
بعد بحروف الجئز، ومن يدرس المقدمة التى كتبها هذا المستشرق عن العمل الذي قام به
يستنتج بأن الأمر كان مخططا مدعوما من قبل مؤتمرات المستشرقين وخصوصا مؤتمر
المستشرقين الثالث عشر الذي عقد بألمانيا مطلع القرن الماضي ، ولم يكن عملا فرديا
عابرًا.
ذكر ليتمان في مقدمته ، الشخصيات التى تعاونت معه في إنجاز ذلك العمل الضخم الأمر
الذي يبرر السرعة الملحوظة التي انتهى بها المشروع . من الشخصيات المذكورة في
المقدمة المبشر السويدي رودين الذي كان رئيسا للمنظمة السويدية للتبشير في ارتريا
في تلك الفترة ، والباحث والمؤرخ الأيطالي كونتي روسيني ، والمبشريـْن فاريتْ
وساندرستيوم .
ويبدو إن الاسم الذي أطلق على الحملة " بعثة جامعة برينستون إلي شمال الحبشة " كان
لإعطاء الحملة طابعا علمياً . ولم تتمكن تلك البعثة من حمل السواد الأعظم من السكان
الناطقين بلهجة التجري على ترك الأبجدية العربية ، وانحصر نجاح الحملة في المنطقة
التى تمكن منها التبشير البروتستانتي من إيجاد موطئ قدم له فيها قبل وصول البعثة
أعلاه ، وهي جزء من الهضبة الأرترية الوسطى حيث اعتنقتَ جماعة من المواطنين من
ناطقي لهجة التجري المذهب البروتستانت.
وأسهمت المنظمة السويدية التى سبقت البعثة في جمع قصائد التجري وتدوينها وكذا في
الأبحاث المتعلقة باللهجة كما جاء في مقدمة ليتمان.
وكتب بعض الباحثين الغربيين فيما بعد مستندين إلى عمل تلك البعثة بأن لهجة التجري
هي واحدة من اللغات الحبشية وقال أخرون إنها أصلا لغة سامية واكتسبها بالتجانس فرع
كبير من قبائل البجة الحامية المنتشرة في ارتريا وشرق السودان ، كل أدلى بدلوه حسب
رؤيته وربما حسب عاطفته وأهدافه وكفى .
إن البحث في هوية هذه اللهجة لا يعني البحث في جذور ناطقيها لأن البحث عن تاريخ
الناطقين بها يتطلب الإلمام بل والتخصص في التاريخ والديموغرافيا وتاريخ السلالات
والنزوحات وهذا علم منفصل .
أما البحث في بناء اللهجة وتركيبتها اللغوية ومفرداتها الفعلية والاسمية والحرفية
وتحولاتها اللفظية مقارنة باللغة العربية المعاصرة ، فهو أدب مقارن ، يفيد استكشاف
العلاقة العميقة بين اللغة العربية المعاصرة والتاريخ التعليمي والثقافي لناطقي
لهجة التجري ، وقد يساعد قبائل البجة الناطقة بالتجري وغيرهم لمواجهة التحديات
الثقافية والتعليمية التى تواجههم منذ أن وطئ الاستعمار الغربي أرضهم . وقد تشجعهم
مثل هذه الأبحاث على التمسك والدفاع عن الهوية الحقيقية للهجتهم وحماية هذا الإرث
الثقافي واللغوي الفريد لأجيالهم القادمة.
إن التجربة التعليمية الحديثة لناطقي لهجة التجري، وثقافتهم الإسلامية العربية ،
واستعمالهم الأبجدية العربية والكلمة العربية المعاصرة في التخاطب المقروء والتدوين
والتعامل التجاري والقضائي منذ مئات السنين ، لشواهدٌ حية على هوية هذه اللهجة
وناطقيها .
أثر اللهجات العربية المعاصرة على ناشئة وشباب البجة ناطقي التجري
أما أثر اللغة العربية ولهجاتها المعاصرة على شباب وناشئة ناطقي التجري في عصرنا
الحاضر نلاحظه في ترادف المفردات وفي المقترضات من الكلمات العربية . ناطقي التجري
يستحدثون مفردات جديدة مقترضة من الدارجة السودانية او من اللهجات العربية المعاصرة
الأخرى بصفة تلقائية ومستمرة ، فيأتون للمعنى الواحد بمفردات قديمة وأخرى حديثة من
اللغة العربية المعاصرة ، وشيئا فشياً تندثر المفردة القديمة لحساب الجديدة
المستعارة ، ولكن يحدث هذا التحول البطئ دون قصد ودون تكلـُّف .
ذات مرة كنت في عيادة صديق مريض ، أتحدث مع والده المسن عن حالته الصحية فقال لي في
سياق حديثه " سلف جَرُوبُه حَبْطهَ " جروب ( بالجيم المعجمة ) وبعد قليل اشترك معنا
في الحديث الأخ الاصغر للمريض وقد جاء من خارج الغرفة حيث قال نفس العبارة التى
قالها والده ولكن بمفردات مختلفة " أول لجسمُه وَرْمَة" من هنا بدأت ابحث عن مكونات
هذه اللهجة العجيبة وكأننى اسمع عبارات مترادفة لاول مرة. العبارة الأولى تحتوى على
مفردات قديمة بينما العبارة الثانية تحتوي على مفردات حديثة ، ولكن ناطقي التجري
يفهمون كلتا العبارتان وهذا ينطبق على الآلآف من المفردات والعبارات المستخدمة
يومياً.
ومن المألوف أن يتجاذب ناطقي التجري أطراف الحديث عن لهجتهم فيقول أحدهم مثلا وجد
في اليمن بعض الناس يتحدثون بمفرادات عتيقة من النوع الذي نستخدمه في لهجتنا ، يقول
هذا وكأنه يبشر جلسائه بأن لهجتهم عربية عريقة ، ويقول أخر وجدتُ مفردات قديمة في
اللغة العربية الفصحى لم تستخدم كثيرا الآن بينما نحن نستخدمها إلى الآن في لهجتنا
، وهكذا وكأنهم يطمئنون بعضهم عن هوية لهجتهم .
والاقتراض اللغوي سمة من سمات تطور اللغات وليس ظاهرة عابرة :
كتب العميد اركان حرب / محمد عبد الفتاح في كتابه " أفريقيا الأرض والناس " قائلا :
" الاستعارة اللغوية هي أخذ بعض الكلمات من هنا وهناك وإضافتها للغة الحديثة بين
الناس . فلقد سبب انتشار الإسلام تسرب كلمات عربية كثيرة إلى اللغات الأفريقية
وبخاصة في شرق أفريقيا " ( صفحة رقم 60 )
وقد أحدثت الاستعارة الدائمة تحولاً عميقاً في لهجة التجري . وتم التحول بالتدرج
وليس بطريقة متعجلة ( اي سريعة ) وببطئ غير محسوس . ويبدوا إن حالة التحول هذه
واكبت اللهجة منذ أمد بعيد ،
وخاصتي ْ ( الترادف والاقتراض ) جعلتا لهجة التجري تستمر في أطوار من التجدد
والاقتراب نحو لهجات اللغة العربية المعاصرة بفعل التجانس والمصاهرات الاجتماعية
والتبادل التجاري والأهم من ذلك ، بفعل الثقافة الإسلامية .
يرى بعض الباحثين الغربيين هذا التجدد مؤشراً لاندثار لهجة التجري ، كما اشار اليه
أولندورف في كتابه "اللغات السامية في شمال شرق أفريقيا" ، بينما يراه ناطقيها تطور
لهجتهم نحو المزيد من الاندماج المرتقب مع لهجات اللغة العربية المعاصرة ، ولذلك لا
ترى الأسرة من البجة الناطقة بلهجة التجري غضاضة في أن يثرثر أبنائها بالدارجة
السودانية أو باللهجة العربية المعاصرة التى يسكنون في بيئتها ، ويـُتأتئ عندما
يتحدث بلهجة التجري .
لا يرونَ في ذلك خطراً على تراثهم اللغوي لأنهم يستشعرون انتمائهم إلى الأمة
العربية أصلاً أو ثقافة ، وكأنهم يدركون بأن لهجتهم إنما هي لهجة عربية قديمة
متجددة في الإرث اللغوي العربي العريق.
المواطنين السودانيين من البجة استمتعوا بلهجاتهم المحلية وباللغة العربية المعاصرة
معاً دونما تعارض منذ مئات السنين ، فاستخدموا اللغة العربية المعاصرة للثقافة
والتعليم والتعامل مع المواد المقروءة والمكتوبة دون أن يتخلوا عن لهجاتهم المحلية
المنطوقة ، ولم يعانوا من أزمة هوية قط حتى في عهد الاستعمار ولذلك ينعمون الآن
بانتماء حقيقي لوطنهم ، السودان .
وبعض الأسر في شرق السودان تحولت كلياً نحو استخدام الدارجة السودانية ولم يعد
الأبناء يتحدثون بالتجرايت أو بالتبداويت ولكن لا أحد أجبرهم على التخلي عن القديم
وارتياد الحديث ، لقد تم كل ذلك تلقائياً دون أي تعليمات أو مشاريع تربوية وتعليمية
مبتكرة لإحلال اللغة العربية ما على حساب لهجتهم السبئية القديمة.
أما في إرتريا هناك اختلاف مزمن بين الحكام وبين المواطنين المسلمين في شأن اللغة
العربية . فقد حال الاستعمار الإيطالي دونهم ودون اللغة العربية من خلال منع
التعليم العصري عنهم ، وحاول حكام إثيوبيا ترويضهم لقبول اللغة الأمهرية في التعليم
الابتدائي ، ولكن وقفت قبائل البجة كافة مع المواطنين الآخرين في وجه الإيطاليين ثم
الإثيوبيين الذين حاولوا طمس اللغة العربية ، واستبسلوا في منع ذلك ولم يتركوا
لهجتهم القديمة المتجددة بجانب لغتهم العربية المعاصرة ، واللغة العربية كانت واحدة
من ملهِّمَات الثورة الأرترية .
أما الدولة الأرترية الوليدة اعتمدت نظرية التعليم بلغات الأم ، واعتبرت لهجة
التجري لغة قائمة بذاتها وصالحة للتعليم الابتدائي ، واعتمدت حروف الجئز لكتابتها
.
هنا ليس لدَيّ ما يثبت عما إذا كان هذا المشروع ضمن الضغوط الاستعمارية ومن
ارتداداته التي ابتليت بها أفريقيا ، أو عما إذا كان بدوافع الهيمنة على المقدرات
المحلية ، او بدوافع أخرى ، ولكن من الطبيعي ومن المنطق أن لا يُـفـْصَل الإنسان عن
ماضيه الثقافي لتجريب نظريات غير مجربة عليه. ومن المؤكد إنّ وصْـلِ البجة وغيرهم
من المسلمين بماضيهم اللغوي في مجال التعليم من جديد ، واعتماد اللغة العربية لهم .